عهد الأمر الواقع
نواجه في لبنان وسوريا زحمة مصطلحات لوصف مرحلة المتغيّرات المتسارعة التي تعصف بالحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. حتّى جلالة الملك الوحيد في المشرق، والذي يفترض أن يكون عرشه خارج نطاق التغيير الديموقراطي، طأطأ رأسه عسى ألّا تلحظه رياح التغيير. وحده أبو مازن غير آبهٍ بما يجري كأن شيئاً لم يكن في العامين الماضيين في بلاده. الخبر الأبرز نهاية الأسبوع وبعد انتهاء تشريفات «تمدين» قائد الجيش اللبناني السابق و«ترئيسه» ومراسمهما هو توجّه رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني إلى دمشق مع وفد من مصرّفي الأعمال، وهو قد يصبح اليوم رئيساً مكلّفاً لتشكيل «حكومة انتخابات» لشغل «الوقت الضائع» بين «الفراغ الرئاسي» والانتخابات النيابية العام المقبل. في دمشق التقى نجيب ميقاتي أحمد الشرع (أبا محمد الجولاني سابقاً)، قائد الأمر الواقع في سوريا إلى حين الانقلاب عليه أو إلى الأبد، وتدلّ المؤشرات أن كلا هاتين الحالتين سوف تسبقان إقرار دستور وانتخاب رئيس جمهورية جديد في سوريا الشرع. مع هذه الزيارة دُفِن «النأي بالنفس» ونُكِش «الشعب الواحد في بلدين» و«وحدة المسار والمصير»، مع أنّ الصورة الحالية قد توحي بأنّ لا الشعب واحد ولا البلدين بلدان. في هذا السياق تتزاحم مصطلحات السياسة والجغرافيا والهوية كالبلد والدولة والوطن والأمّة والإقليم والقُطْر (سابقاً). وفي هذا الجوّ العام يتسابق قائدا لبنان وسوريا الجديدان على تثبيت بعض المفاهيم، خاصة في ما يخصّ دولتيهما المنهارتين على الأصعدة كافة.
في كلا الحالتين لا يملك الرجلان ترف الوقت إذ عليهما أن يبنيا روما في يوم واحد أو يغرقان في بحر المتغيّرات السريعة. ليسا وحدهما من يتصرّف بتسرّع فكثرٌ ممّن احتفلوا قبل شهر في سوريا مصدومون اليوم بأن حسابات حقل إدلب لا تتماشى مع حسابات بيدر دمشق، كما يُحسَد المتحمّسون اليوم في لبنان لكلام عام في خطاب عهد فضفاض على تفاؤلهم المفرط وكأنّهم لم يشاهدوا المشهد الذي سبق التنصيب أو لا يعرفون حال المؤسسة التي يأتي من قيادتها باني المؤسسات الموعود. المشكلة الأكبر في وعود القائدَين ليست في الأيديولوجية الرجعية ولا في التسليم للنيوليبرالية الاقتصادية ولا في غياب المواقف الوطنية الجامعة ولا في الانبطاح السفاراتي والوصاية الاستعمارية ولا في مشاريع التطبيع وطمس القضية المركزية. مشكلتهما الأكبر هي أن كل الوعود التي سخيا في إطلاقها مرهونة بسخاء المستثمرين في مشروعيهما لبناء دولتيهما، ولهؤلاء المستثمرين تاريخ حافل في بناء الدول المستقرة والمزدهرة وصاحبة السيادة طبعاً.
بعيداً عن الشكليات والجمبازيّات الأدبية في استخدام المصطلحات لتفادي وصف الواقع كما هو، الوضع في بلادنا لا يدعو إلى التفاؤل، أقلّه على المدى القصير. تحدّث أنطونيو غرامشي في رسائله التي خطّها في السجن عن «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة»، واليوم ما أحوج «شعبنا الواحد» إلى تفاؤل الإرادة على امتداد البلاد. لكن بعكس متسرّعي اللحظة الذين يتهافتون لإعلان الولاء لحكام الغفلة، أصحاب الإرادة ليسوا محكومين بتاريخ لانتهاء الصلاحية. لا يخفى عن العقل المتشائم أن القبول بشروط وإملاءات لم يكن ليحصل لولا الانتكاسات، لكنّ الأمر الواقع ليس حكماً مؤبّداً. والمثبت أيضاً هو أنه ليس دستوراً لا حسب تعريف الدستور ولا حسب الممارسات التي نشهدها. طالما لم تنكسر إرادة الشعب بالتحرّر والتحرير فالأمرُ الواقع أمرٌ آنيٌّ عابرٌ مهما طال.
تغيّر الكثير في بلادنا في الأسابيع والأشهر الماضية. تغيّرت مصطلحات وتغيّرت وجوه وتغيّرت أسماء. في بعض الحالات هناك وجوه غيّرت أسماءها، وفي كثير من الحالات الأخرى بقيت الأسماء لكنها بدّلت وجوهها. نصيحة لمن ملّ التغيّرات بأن يهاجر لأننا ما زلنا في أوّل الطريق، ولكنه يصعب إيجاد وجهة للهجرة إليها بمنأى عن المتغيّرات في العالم اليوم. هذه التغيّرات سوف يقودها، على المدى الطويل، «تفاؤل الإرادة» الذي لم تكسره حرب إبادة. وكما أظهرت السابقة التي خبرناها للتوّ، أمرٌ واقعٌ مغايرٌ يمكن أن يفرض نفسه سريعاً «بلا إحم… ولا دستور».
* من أسرة «الأخبار»